Home
أحد ميلاد يوحنا
عن البطريركية الجليلة:
بقلم قداسة سيدنا البطريرك مار إغناطيوس زكا الأول عيواص الكلي الطوبى
القراءات: رسالة بطرس الأولى (2: 11ـ 25) رسالة مار بولس الرسول إلى أهل غلاطية (4: 19ـ 31) الإنجيل المقدس بحسب البشير لوقا (1: 57ـ 80) الإنجيل المقدس بحسب الرسول متى (11: 2ـ 15)
«وأما أليصابات فتمّ زمانها لتلد فولدت ابنا وسمع جيرانها وأقرباؤها إن الرب عظّم رحمته لها ففرحوا معها» (لو1: 57 و58).
أيها الأحباء:
تذكر الكنيسة المقدسة في هذا اليوم المبارك حدثاً عجيباً جرى في تاريخ الفداء، تذكر ميلاد يوحنا المعمدان. هذا الميلاد جرى كسائر الولادات التي حدثت لعاقر أو عاقرين في العهد القديم، الولادات التي يدعوها الرسول بولس: «الولادة بالموعد لا الولادة الجسدية»، فهو أمر يفوق الطبيعة، ولئن كان أمراً طبيعياً أيضاً، ونحن لا نحتفل بأعياد وتذكارت ميلاد القديسين والقديسات إلا ميلاد العذراء مريم ويوحنا المعمدان. دائماً عندما نحتفل بأعياد القديسين نحتفل بذكرى رحيلهم إلى السماء، فقد احتفلت الكنيسة بأعياد الشهداء الذين باستشهادهم يعتبرون قديسين لأنهم ضحّوا بالغالي والنفيس وحتى بالنفس في سبيل إعلان الإيمان بالمسيح يسوع. ثم نحتفل بأعياد الأبرار والأتقياء والنسّاك عند ختام حياتهم على هذه الأرض لأنهم حتى ختام حياتهم كانوا يسلكون بموجب شريعة الرب وناموسه بلا عيب. كما قيل عن أليصابات وعن زوجها الكاهن زكريا كانا بارّين أمام الرب وأنهما كانا يسلكان بحسب شريعة الرب وأحكامه أي فرائضه بالصوم والصلاة وتوزيع الصدقات وبإقامة نفسَيهما مثالاً للناس بسيرة طاهرة نقية.
كانت أليصابات عاقراً وكانت شيخةً، وكان زكريا عاقراً وكان شيخاً طاعناً في السن أيضاً، لذلك عندما بشّر الملاك زكريا بأنه قد استجيبت طلبته وسوف تلد له أليصابات امرأته ابناً، تعجّب زكريا رغم أن هذا الحدث لعاقرَين يلدان ابناً لم يكن جديداً في العهد القديم، وحُكِم على زكريا بالصمت كما نعلم من تقرير لوقا البشير، ولكن كانت الولادة طبيعية ولئن لم تكن جسدية صرفة بل كانت ولادة بالمواعيد، لأن الرب وعد والرب أتمّ وعده، وجرت هذه الأعجوبة. تسعة شهور حملته أمه كما تحمل الأمهات أطفالهنّ، في الشهر السادس بعد انقضاء خمسة شهور تبارك الجنين من الرب عندما جاءت العذراء مريم وهي تحمل في أحشائها الرب يسوع، وعندما زارت العذراء أليصابات وكلّمتها امتلأت أليصابات من الروح القدس وتنبّأت، وأعلنت أن الذي في أحشاء العذراء هو ربٌّ: «من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ؟».
كل ذلك قيل بالروح القدس، والآن قد تمّت أيام أليصابات وولدت ابناً، في هذه الولادة عرفنا ما كان قبل الولادة، كما عرفنا أن جيرانها وأقرباءها فرحوا عندما ولدت أليصابات ابنها يوحنا، لأنهم كانوا أبراراً، لذلك فرحوا لفرح الآخرين. ليس كل إنسان يستطيع أن يفرح عندما ينجح الآخرون، فهم حسداً يعلّلون نجاحه بأمور كثيرة: إنه الحظ، يقولون أيضاً قد تكون هذه الفرحة سبباً لسقوط هؤلاء الناس. العديد من الناس عندما يُنعَم عليهم من الرب تساورهم الكبرياء، تقوى عليهم تجارب إبليس، لا يملكون قوة روحية لمقاومة هذه التجارب فيسقطون في الكبرياء، وكثير من الناس عندما يُنعَم عليهم بنعمة يساور الحسد الأشرار من أقربائهم وأصدقائهم وجيرانهم فيحاولون ببغضهم حتى أنهم يتمنون لهم الهلاك.
لكن أليصابات في جبل يهوذا الذي كان يسكنه العديد من الكهنة فرح جيرانها وأقرباؤها بها لأن الرب قد عظّم رحمته لها فرزقت ابناً بعد أن كانت عاقراً، وجاؤوا يشاركونها في اليوم الثامن حفلة ختان الصبي. شريعة الختان كانت علامة عهد ما بين اللّه وبين ذلك الشعب من أيام إبراهيم، ونجده في عهد موسى وبأمره فريضة تمارس في اليوم الثامن لولادة الصبي حيث يختن الصبي ليستحق أن يكون ضمن هذا الشعب الذي أقام اللّه معه عهداً أبدياً. كان الجيران والأقارب يجتمعون للاحتفال بطقس الختان، ليس ضرورياً أن يكون هناك كاهن حتى يُختتن الصبي، بل من الضروري أن يُسمّى ذلك الصبي باسم أحد آبائه وأجداده. هذه عادة حميدة جداً أولاً كي يُحيي هؤلاء الناس ذكر آبائهم، وبإحياء أسماء الآباء ينال هذا الإنسان بركة عظيمة لأنه يكون قد اشترك بالنعمة التي أسبغ اللّه بها على أولئك الآباء.
نحن في أيامنا هذه قد نسينا آباءنا الروحيين، ونسينا أنّنا عائلة واحدة ورأس العائلة هو يسوع المسيح، وعندما ننسى أسماء آبائنا ننسى سيرهم، ولا ننسج على منوالهم، ولا نقتدي بهم، ونطلق على أولادنا أسماء غريبة، هذه الأسماء تؤثّر على هذا الصبي الذي ينمو في القامة لكن لا ينمو في النعمة إذا لم يكن يتذكّر أنه دُعي باسم أحد آبائه الأتقياء والأبرار. عندما يُسمَّى بأسماء آبائه يتذكّر دائماً أنّه من نسل أولئك الآباء وأن عليه أن يتمسّك بإيمانه الذي تسلّمه منهم خاصةً نحن كمسيحيين يجب أن نتمسك بالإيمان المسيحي الذي تمسّك به آباؤنا، لذلك نرى أن أولئك الناس الجيران والأقرباء بحسب تلك العادة سمّوا الابن الذي ولدته أليصابات باسم أبيه زكريا. كان زكريا كاهناً تقيّاً والجميع عرفوا أن هذا الصبي حُبل به في بطن أمه أليصابات بعد أن بشّر الملاك أباه زكريا في مذبح البخور، لذلك فهو صبي ولد بموعد وبنعمة ولئن كانت الولادة مثلما قلنا طبيعية جسدية وهذا أمر مهم جداً أن نفهمه، ولادة جسدية صرفة إنما لم تكن جسدية بالنسبة للروح، لأنها جاءت بموعد من اللّه. أليصابات قالت: يدعى يوحنا، أجابوها: في كل نسلكم لم يكن شخص اسمه يوحنا، فاستشاروا زكريا الذي كان صامتاً كما حكم عليه الملاك لا يسمع ولا يتكلّم. أعطوه لوحاً ليكتب فكتب: يوحنا، وعندما كتب ذلك انطلق عقد لسانه وفتح فمه وتكلّم وسبّح اللّه وتنبّأ عن الصبي. ليس عن الصبي فقط أنه يسبق مجيء المسيح، ماسيّا المنتظر الذي هو ربّه، بل أيضاً تنبّأ عن المسيح بالذات الذي أقامه اللّه قرناً أي عزّاً لذلك الشعب، ودعي يوحنا لأنه به بدأ عهد الحنان، هذا الحنان كان أيضاً لا بدّ أن يرافقه ما ندعوه الرجوع إلى اللّه أي التوبة، ولذلك عهد الحنان بدأ بمناداة يوحنا الشعب قائلاً: «توبوا فقد اقترب منكم ملكوت اللّه»، وبدأ مناداة الرب في تدبيره الإلهي العلني بالجسد بعد أن اعتمد وأعلن من السماء أنه ابن اللّه وبعد أن ظهر الروح القدس بشبه حمامة هابطاً على هامته ليميّزه عن بقية الناس ولأجل الناس، لأنه هو والروح واحد، هو والآب واحد أيضاً. بعد كل ذلك بدأ رسالته الإلهية بالمناداة أيضاً بالتوبة، توبوا فقد اقترب منكم ملكوت اللّه، هذا هو عهد الحنان الذي تمّ بالفداء بدم المسيح يسوع، فنلنا رحمة اللّه بالعودة إلى فردوس النعيم وبالموعد أن نكون بعدئذٍ في يوم القيامة في عِداد القديسين في ملكوت اللّه، ليس فقط في الفردوس كأرواح قديسة طاهرة، بل أيضاً في يوم القيامة في ملكوت اللّه.
بشفاعة هذا القديس مار يوحنا المعمدان نسأل الرب الإله أن يؤهّلنا جميعاً لنقتدي بآبائنا كزكريا وأليصابات إذا ما أصبنا ببلوى لنصطبر، أليصابات أنشدت بنشيدها أن اللّه رفع العار عنها، كان العقر عاراً وكان بلوى، كان مصيبة على أليصابات كما كانت مصيبة على زكريا ولكنهما كانا صابرين، وقد يكون قد عُيِّرا أيضاً من الناس أن الرب لم يباركهما ولذلك أليصابات مجّدت اللّه لأنه رفع عنها وعن عائلتها العار، فولدت ابناً. فعلينا أن نصطبر لأن في كل حدث في حياتنا غاية ربّانية وإذا ما اصطبرنا وطلبنا وسألنا اللّه أن يزيل عنّا هذه البلوى يستجيبنا الرب فيفرح معنا أقرباؤنا وأصدقاؤنا وجيراننا الصالحون لأن الرب قد أنعم علينا، وعظم رحمته لنا. كما علينا أن نقتدي بأليصابات وزكريا اللذين أتمّا شريعة الرب أي ختنا الصبي في اليوم الثامن كما نصّت الشريعة. أحياناً عديدة نحن نؤمن بفرائض الرب، أحياناً عديدة بعض الناس يظنون أن خلاصنا بالكتاب المقدس فقط، والحقيقة يبتعدون عن الحق وعن ينابيع الحق، ولكن هناك فروض وأحكام. عندما أراد لوقا أن يصف أليصابات وزكريا بالبر قال عنهما أنهما كانا يتمسّكان بشريعة الرب وبأحكامه وفروضه، فنحن علينا فروض دينية من صوم وصلاة وتوزيع الصدقات علينا أن نكملها إلى جانب تمسكنا بالناموس الأدبي، فعلينا أن نواظب على حضور القداس الإلهي أيام الآحاد والأعياد، هذا القداس ضروري جداً عندما بعض الذين تتطرّفاً منهم تركوا النظم والفرائض ظنّاً منهم أن قراءة كلمة اللّه أي الكتاب المقدس تكفي للخلاص، لقد حادوا عن الحق وابتعدوا عن ينبوع الخلاص لأن ما نمارسه من صلوات واجب علينا، الصلوات اليومية الفرضية يجب أن نصلّيها وقد سمحت الكنيسة للظروف العالمية أن نصلّيها في البيت. سابقاً كان علينا أن نصلّيها في الكنيسة صباح مساء، أو في موقع العمل، إنّما مَن منّا إن كنّا إكليريكيين علينا أن نصلي بالروح نعبد اللّه بالروح والحق، ليس فقط نقرأ الإشحيم أو نقرأ الفنقيث، واجب علينا أن نعمل ذلك، ولكن ليكن ذلك بالروح والحق، وإن كنّا علمانيين أيضاً على الأقل كما هو مدوَّن في كتاب التحفة الروحية، أن نقوم بهذه الصلوات أينما كنّا لكي نعبد اللّه أيضاً بالروح والحق ونكمّل هذه الصلوات باشتياق إلى مناجاة الرب، فالفروض ضرورية كالناموس والشريعة.
نتعلّم أيضاً من زكريا ومن أليصابات أن نتواضع عندما يُنعَم علينا بنعمة ما وأن نقرّ ونعترف بأننا لم ننل هذا من أنفسنا وبقوّتنا بل من اللّه، وأيضاً نفكّر في المجموع، فزكريا لم يفكر أن يُرفَع العار عنه وعن زوجته، بل أيضاً فكّر بالخلاص وعندما مجّد اللّه بولادة ابنه مجّد أيضاً اللّه لأنه أقام قرن خلاص يعني الخلاص العام الذي صار بالمسيح يسوع ربنا.
ليباركنا الرب جميعاً، ويؤهّلنا أيها الأحباء لنتمسّك بشريعته الإلهية ونواميسه وفرائضه لننال نعمة الخلاص به، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
|