Home
خميس الصعود
عن البطريركية ـــ
ـــ بقلم قداسة البطريرك مار إغناطيوس زكا الأول عيواص الكلي الطوبى
«وأخرجهم إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء» (لو24 : 50)
أكمل الرب يسوع عمل الفداء فغلب إبليس وهدم أركان الهاوية وهيمن على الموت وأعطانا النصر. فدانا إذ برّرنا وقدّسنا ووهبنا نعمة التبني، أنهى التدبير الإلهي بالجسد مات وقام وكان لا بد أن يعود إلى مجده في السماء. نوّه عند ذلك لتلاميذه مرة مبيناً أنه ليس أحد يصعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء.
كان وما يزال حتى بعد تجسّده مشاركاً أباه عرشه ولكنه بعد أن تجسّد وبعد أن تمجّد بآلامه وموته وقام من بين الأموات مبجّلاً كان لا بد أن يجلس على العرش الإلهي بالجسد الممجّد أيضاً. كان لا بد أن يصعد إلى السماء وأن يجلسنا معه على عرش أبيه. لذلك وقد ظهر للتلاميذ مرات عديدة بعد قيامته وآمنوا أنه حي وبعد أن وعدهم أيضاً أن يمكث معهم إلى انقضاء الدهر وحيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه فهو يكون في وسطهم بعد كل ذلك ظهر لهم للمرة الحادية عشرة وهم في العلية في المرات السابقة وكان يظهر ليلاً لأنهم كانوا لا يزالون خائفين من اليهود، أما في هذه المرة فإذ كانوا مجتمعين في العلية نهاراً ظهر لهم الرب وأخرجهم خارجاً إلى جبل الزيتون إلى بيت عنيا إلى نواحي تلك القرية، ويصف ذلك مرقس: فإنه صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب.
أما لوقا فيقول: أن الرب رفع يديه وباركهم وأثناء ذلك انفرد عنهم وأصعد إلى السماء وكانوا ينظرون إليه متعجبين طبعاً وإذا بسحابة تحجبه عن عيونهم ويصف ذلك لنا أيضاً لوقا ذاته في سفر أعمال الرسل: انهم كانوا يتطلّعون إلى السماء وإذا بشخصَين، بملاكَين ظهراً كشابين بثياب بيضاء قائلين للرسل: ما ابلكم أيها الرجال الجليليون تتطلعون إلى السماء إن يسوع هذا الذي ذهب عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه صاعداً إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه صاعداً إلى السماء فرجعوا إلى أورشليم فرحين. نستغرب جداً من هذه الكلمة هل يفرحون بعد أن غادرهم المسيح. أجل عادوا إلى أورشليم فرحين وبفرحهم ذهبوا إلى الهيكل وكانوا دائماً يواظبون على الصلاة لأنهم يعرفون أنه لا بد للمؤمن أن يشكر ويبارك على النعم التي يسبغها الله عليه. هذا وضع الرسل بصعود الرب وبعد صعوده أنهم فرحون بالرب، فالرب لا بد أن يعود إلى السماء وعاد بجسدنا الممجد مثلما قال الرسول بولس: أنه قام من بين الأموات وصعد إلى السماء وأجلسنا معه وأصعدنا معه إلى السماء. لأول مرة جسدنا الترابي الذي قيل أنه تراب وإلى التراب يعود دون فساد يتمجّد يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين الله الآب، ألا نفرح لذلك أن الخلاص قد تم.
إن النعم التي أسبغها الله علينا قد أصبحت واقعاً لنا وأن المسيح الذي رأيناه يجول بين الناس يصنع خيراً، ان المسيح الذي علّمنا التواضع والوداعة وصنع السلام والمحبة، أن المسيح الذي تحمّل العار لأجلنا بل صلب ومات لأجل فدائنا، ذلك يسوع المسيح الناصري قام حقاً من بين الأموات بل أيضاً وأصعد إلى السماء، الا يحق لنا أن نفرح، ألا يجدر بالرسل أن يفرحوا ويشكروا ويباركوا الله لأنه بعد أن كان واحداً منهم قد أسلمه فاستحق الموت وشنق نفسه وهلك والثاني الذي قد أنكره وخرج خارجاً وبكى وتألّم والثالث الذي تشكك بقيامته وتحدّاه أيضاً نال المغفرة من الله كالمغفرة التي نالها بطرس الناكر التائب العائد. الا يحق لبطرس وزمرته لأنهم وقد هربوا من أمام وجه أعدائه وتركوه وحده يتألم قد نال المغفرة منه ورفع يديه وباركهم عادوا إلى رتبة التلمذة والرسولية وليس هذا فقط، بل أن الرب أعاد ثقته الإلهية بهم فحمّلهم الرسالة وأرسلهم إلى أنحاء العالم ليكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها ووضع القواعد للخلاص: من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يدان. الا يحق لهم أن يفرحوا ويبتهجوا ولئن فارقهم الرب بالجسد وكان صديقاً لهم ومحباً وحامياً وراعياً وهم من لحم ودم وأما الآب فبجسده الممجد الذي استحق ذلك الجسد أن يجلس عن يمين العظمة أما الآن فهو لا يزال صديقهم ورفيقهم وحبيبهم وإلههم وربهم ولكن سيبتعد بل ابتعد عنهم بالجسد ليكون قريباً منهم بالروح بل ليرعاهم ويحميهم وهو عن يمين العظمة وليشفع بهم أيضاً عند أبيهم السماوي. إذن يحق لهم أن يفرحوا. لقد رآه اسطفانوس بعد ذلك جالساً عن يمين العظمة لذلك حق للكنيسة أن تفتخر أن مخلصها، إلهها قد أخذ جسد البشر وهو ابن الإنسان وفي الوقت نفسه هو ابن الله بطبيعته الواحدة وأقنومه الواحد وإرادته الواحدة يجلس عن يمين الآب والرسل يحملون الشهادة بقيامته حتى الاستشهاد يعترفون بذلك بكل شجاعة ويفرحون بذلك أن الرب قد جلس عن يمين العظمة كما تنبّأ داود في المزامير بقوله: قال الرب لربي اجلس عن يميني، لقد جلس عن يمين أبيه السماوي ليشفع فينا إلى الأبد.
هذه رسالة الصعود، عندما نعيّد عيد الصعود وليس هذا فقط بل أننا نربط الماضر بالحاضر والحاضر بالمستقبل فنرى الرسل وهم يتطلّعون إلى السماء يرون المسيح وقد أخفته سحابة عن عيونهم ولكن في الوقت نفسه يستمعون إلى الملاكين يقولان لهم إن يسوع هذا الذي غادركم إلى السماء سيأتي هكذا سيأتي ثانيةً كما رأيتموه يصعد إلى السماء فتنتقل عقولنا وقلوبنا إلى السماء. وما هي السماء. هل هي الموقع الذي يرتفع عن الأرض، هل هي حالة أو مكان جغرافي؟ هذا السؤال يظهر أمامنا دائماً ونكون في حيرة، ولكننا كمؤمنين نعرف أن السماء حيث عرش الله، عن السماء هي السكن مع إلهنا، باستطاعتنا أن نحوّل حالتنا التعيسة في هذه الأرض إلى حالة السماء عندما نشعر أننا مع الله وأن الله معنا وقد وعدنا كما قلنا سابقاً بأن يمكث معنا إلى الأبد وجلوسه عن يمين العظمة بالجسد الممجد، هذا الوجود هو قوة لنا لأن باستطاعته أن يشفع فينا، فهو يشفع فينا كإله متجسد أخذ جسدنا ومجّد هذا الجسد لنكون نحن مثله يوم مجيئه الثاني لنتطلّع إلى السماء، لنراه آتياً على السحاب كما ذهب مع السحاب وهذا ما يقوله لنا صاحب الرؤيا يوحنا: هوذا يأتي مع السحاب وتنظره كل عين، فرسالة الصعود هي رسالة المجيء الثاني، المجيء الثاني لتمجيد من يؤمن به كما تمجد هو بمجيئه الأول بعد انتصاره على إبليس والموت والخطية، في مجيئه الثاني كل من ينتظره بإيمان ويعمل الأعمال التي تليق بمن يؤمن بالمسيح المتألّم والمائت والقائم من بين الأموات والذي صعد إلى السماء. والسماء هي حالة أن نكون مع الله، السماء هي عرش الله ومن حول العرش من الملائكة ومن القديسين والأتقياء والأبرار، والسماء لا نتصوّر مكانها وموقعها الجغرافي لأن ذلك سر عظيم لا ندركه فالله في كل مكان والله معنا وتوقنا إلى السماء يجعلنا نفرح أكثر إلى مغادرة الرب الأرض بالجسد وتوقنا وشوقنا إلى السماء يجعلنا أن نرغب أن نكمل وصايا الله لنغلب معه الخطية ونكون معه في مجيئه الثاني. هذه هي رسالة الصعود أن ننتظر الرب يسوع في مجيئه الثاني، أن نكون في عِداد ألئك الذين غلبوا معه لينالوا نعمة، لينالوا الغاية التي جاء من أجلها إلى الأرض، التبرير والتقديس والتبني إذ صرنا أبناء لله بالنعمة لنكون ورثة في ملكوته السماوي فالابن أو الأبناء يرثون آباءهم.
فليكن يوم الصعود يوم تحريض لنا للإيمان بالرب والعمل من أجل نيل ملكوته السماوي، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.
|