أحبائي، في هذا اليوم المقدس، تُقرع أجراس الكنائس معلنةً بأنغامها الشجيّة، أفراح المؤمنين بعيد ميلاد فاديهم الإلهي، وهم يشاركون ملائكة السماء بتمجيده، فقد صار الإله إنساناً، وأزاح عن كاهل البشرية كابوس الأحزان، وملأ القلوب مسرات وأفراحاً.
ففي هذه الذكرى السعيدة، ننتقل بأفكارنا وأنظارنا إلى بيت لحم أفراثا، إلى مغارة متواضعة حيث وَلَدت العذراء مريم، قبل عشرين قرناً، ابنها البكرَ، وهو بكر الآب السماوي أيضاً، وقمّطته، ووضعته في مذود، إذ شاء أن يولد فقيراً، فأهمله بنو قومه، وتم بذلك ما قاله النبي إشعيا قبل ذلك التاريخ بسبعمائة سنة إن «الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أما ... شعبي فلا يفهم» (أش 1: 3).
وإن حوّلنا الآن أنظارنا إلى السماء، نراها مهتمّة جداً بهذا الحدث الإلهي العظيم، فقد مهدت له عبر الدهور والأجيال بالنبوات والرموز والإشارات، وأرسلت كبير الملائكة جبرائيل إلى الأرض مرات عديدة فحدد للنبي دانيال تاريخ وقوع هذا الحدث قبل موعده بخمسة قرون. ولما بلغ ملء الزمان بشر جبرائيل العذراء مريم بالحبل الإلهي موضحاً لها بأن الروح القدس يحل عليها وقوة العلي تظللها فلذلك أيضاً القدوس المولود منها يدعى ابن اللّه (لو1: 35).
ويوم الميلاد أعلنت السماء فرحتها بميلاد الماسيا الذي انتظرته الشعوب والأجيال، فانحدر الملاك من السماء ووقف برعاة بسطاء يسهرون على أغنامهم يحرسونها حراسات الليل على هضاب بيت لحم أفراثا. ومن أجدر من الرعاة بالبشارة بولادة الحمل الوديع «حمل الله الرافع خطايا العالم».
ولما وقف الملاك بالرعاة أضاء مجد الرب حولهم فخافوا خوفاً عظيماً. ولكن الملاك يطمئن الرعاة ويحوّل خوفهم إلى فرح عظيم قائلاً: لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرح عظيم... وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمّطاً مضجعاً في مذود. وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبّحين الله وقائلين: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة» (لو 2: 10 ـ 14) يا لها من قصيدة بديعة فريدة يتيمة، نظمتها السماء وأنشدتها، وقد أُنعِم على الأرض، لأول مرة بعد دخول الخطية إليها، أن تسمع ألحان المجد الشجيّة، وأنغام السلام الروحية، يوقعها على قيثارة الروح ملائكة السماء، معلنين بهجة الخليقتين المنظورة وغير المنظورة بالحدث العظيم ألا وهو ميلاد المخلص الذي هو مسيح الرب، الذي به زال الخوف، ونقض سياج العداوة بين الإله والإنسان، وتبددت الأحزان وامتلأت القلوب غبطة وفرحاً، وهو ليس كالأفراح الدنيوية الزائلة، بل هو فرح سماوي مقدس كقول الرسول بولس: «إن ملكوت الله ليس أكلاً وشراباً بل هو سلام وفرح في الروح القدس» (رو 14: 17) وكقول الرب «افرحوا بالحريّ ان أسماءكم كتبت في السموات» (لو 10: 20).
أجل، ولد لنا في مدينة داود مخلص هو المسيح الذي حَمَلَ الخروف الضال على منكبيه وأتى به إلى حظيرة الخراف، وقبل الابن الشاطر، ورعى الشعب رعاية صالحة، وشفى المرضى، وأقام الموتى، وعزّى الحزانى، وفرّج عن المكروبين، وهدى الضالين. وقد أعلن عن نفسه أنه هو مسيح الله، لما دخل المجمع في الناصرة وقام ليقرأ: «ووجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه «روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة... فابتدأ يقول لهم إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم» (لو4: 16ـ 21).
فلنفرحنَّ بميلاد الفادي، أيها الأحباء، في هذا اليوم المبارك، وفي كل يوم. ولا ندع العالم ومغرياته ومنغّصاته تشغلنا عن الفرح الروحي بالمسيح يسوع ربنا. ففي وسط العاصفة، وحتى عندما يهيج البحر الخضم، فتتقاذف أمواجه الصاخبة سفينة حياتنا الغالية، تريد تحطيمها، لا يمكن أن يغادر السلام نفوسنا، والبهجة قلوبنا، ما دام إلهنا معنا، وقد وعد قائلاً: «طوبى لكم إذا عيروكم واضطهدوكم وقالوا عنكم كل كلمة سوء من أجلي كاذبين افرحوا وابتهجوا فإن أجركم عظيم في السموات» (مت5: 10ـ12).
أجل إن المسيح في ميلاده بعث البهجة في قلوبنا والسلام في نفوسنا، فعلينا أن نفعل نحن أيضاً ذلك بإخوتنا بني البشر، فنعزي الحزانى، ونفرِّج عن المكروبين ونجبر القلوب المنكسرة، ونحوِّل عوز الفقراء والمساكين إلى اكتفاء بالعطاء السخي. ليكون للمسيح موضع في منازلنا، وليحل في قلوبنا، فنقبله مسيحاً ورباً ومخلصاً لنا.
تقبَّل الرب صومكم وصلواتكم، ليكن عيد الميلاد هذا عيداً مباركاً عليكم أيها الأحباء، ولينشر الله تعالى أمنه وسلامه في العالم أجمع لتمتلئ قلوب البشر فرحاً روحياً وسلاماً كاملاً آمين.
هذا ما اقتضى والنعمة معكم